|
|||||
في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك انتشر في مصر مرض سياسي خطير اسمه البحث عن بطل، بطل يرأس الجمهورية بعد مبارك، وكان الحديث عن هذا البطل يتمدد وينكمش تبعا لقدرة المتحاورين على الإقناع والاقتناع. وكان هؤلاء يتحدثون عن أن مبارك تمكن من تنمية معارفه السياسية قبل أن يكون رئيسا بدرجة لم تكن متاحة عند أحد آخر، يعنون بالطبع ذلك الوقت الذي كان يدور فيه الحوار بعد ربع قرن من رئاسة مريحة ومسبوقة بخمس سنوات من الوجود في الصورة الكاملة نائبا للرئيس.
وقد دفعني هذا الجدل المتوالي إلى أن أكتب أكثر من دراسة عن الإعداد
المكثف الذي حظى به مبارك قبل توليه الرئاسة، وهو ما تمثل على سبيل المثال
في أنه تولى المسؤوليات الكاملة للرئاسة 18 مرة ( ثماني عشرة مرة بتفويض
كامل من الرئيس السادات، وذكرت في تلك الدراسة تواريخ هذه التفويضات، كما
أشرت إلى أن عددا من القوانين التي لا تزال سارية صدرت في عهد السادات
باعتماد الرئيس المفوض محمد حسني مبارك).
وبالطبع، فإن هذا مما يحسب للسادات الذي كان حريصا جدا وبصدق على أن يتخلص من أعباء كثيرة متعلقة بإدارة الرئاسة، وأنه لم يفرط في واجبات الرئاسة السيادية والسياسية. وفي مقابل هذا الحديث عن تفرد مبارك كان هناك حديث موازٍ عن المعية أو صلاحية ابنه، حيث كان "المجاملون" يذهبون إلى القول إن "ابن الرئيس" نشأ في بيت الرئيس، وإنه يمارس الرئاسة بالفعل، لكن الحقيقية المسكوت عنها والتي يعرفها الجميع أن أحدا في الشارع المصري لم يقتنع بهذا الكلام ولا كرره، وأن الذين كرروه من أبناء الشعب كانوا من الذكاء بحيث نسبوه إلى أكثر المصادر شهرة من بين من تحدثوا به، وهو الفنان عادل إمام، الذي أعلن أنه لا يرى من يصلح للرئاسة غير هذا المتدرب الجاهز! ثم وقعت الواقعة، وحدثت الثورة وما تلاها، وجاء رئيس من صفوف الشعب بانتخاب الشعب نفسه. ومع أن الحديث عن وصول الرئيس محمد مرسي للرئاسة دون خبرة كان حديثا ظالما، فإن تكراره أصبح يدفع به إلى خانة المحفوظات ثقيلة الدم، وإن لم يكن قد نجح في أن يدفع به إلى خانة المسلمات، ذلك أن مرسي كان قد مارس السياسة العامة والحزبية والبرلمانية على نطاق واسع من خلال مناصبه السياسية في الإخوان وفي مجلس الشعب ثم في حزب الحرية والعدالة، وفي منظمات عديدة للمجتمع المدني، منها الجمعية الوطنية للتغيير. ومع هذا فقد ظل الجمهور بمن فيهم أنصار مرسي ومحبوه يرددون حقيقية أنه كان أطيب قلبا وأنقى عقلا وأصفى نفسا مما يتطلبه منصب الرئاسة في مصر، ومن هذه المتطلبات قدر عميق من إدراك طبائع الشر قد يدفع إلى ممارسته أي ممارسة في بعض اللحظات، وقدر من إدراك المؤامرة قد يقتضي إنجاز مؤامرة أخرى لإجهاضها مبكرا.. وهكذا.
وهكذا طرحت رؤية أن الفوز بالانتخابات يكفل التمكين من منصب رئيس الجمهورية، لكن منصب رئيس الوزراء لابد له من رجل عمل وزيرا في الفترة الانتقالية نفسها حتى لو كانت مدة توزيره لا تتجاوز شهورا معدودة، وحبذا لو كان الرجل من الذين يجيدون تكرار الموافقة على الشيء ونقيضه دون أي إحساس بنقصان الاحترام، وهو ما يسمى في اللغة الإنجليزية yes man. وكانت هذه هي الصيغة التي صعد بها قنديل، وهو الرجل الموافق على طول الخط. وهكذا كان تقسيم السلطة بين مرسي الذي لم يكن حتى تلك اللحظة رئيسا بطلا، بل كان رئيسا منتخبا فحسب، وبين قنديل والمجلس العسكري بقيادة طنطاوي وعنان، فلما أراد مرسي الحراك خطوة للأمام جاءت نتيجتها وكأنها مجموعة من الخطوات إلى الخلف في صورة قائد متثعلب راغب في المشاركة في حبس الأسد والحصول على عرين الأسد لنفسه، ومع ما تضمنه هذا التطور من استنكار البعض واستهجان البعض الآخر، فإن بعض المغرمين بمهارات الوحوش رأوا في مثل هذا الفعل مدعاة إلى السير على طريق البطولة، بل إن بعض هؤلاء رأوا نوعا من أنواع البطولة في هذا التصرف المحمي من الخارج، والمدبر على يد العدو، والمؤدي بطريقة مسرحية وسينمائية أقرب إلى الدعاية منها إلى الفن. وكان هؤلاء -وإن تناقص عددهم مع الزمن ومع إدراكهم حقائق الأمور- يتصورون أن الأمور ستستقر للانقلاب في خلال 48 ساعة أو 72 ساعة، فإذا مائة يوم تمضي دون أن يتحقق أي نوع من أنواع الاستقرار الذي تصور البعض أنه يمكن الحصول عليه بالدبابة والطائرة، وعاد المذبذبون يتصورون أن وجود قائد قديم كشفيق يمكن أن يثري الحياة السياسية بنوع من الاجتهاد أو التنافس، لكنهم تذكروا ما كان يثار من أن وصول طيار إلى الرئاسة بعد طيار آخر ليس أمرا مريحا بالنسبة إلى القوات المسلحة، وإذا كان الأول قد صادف بعض النجاح، فإن هذا لا يكفل للثاني القدر ذاته من النجاح. وهكذا أصبحنا أمام قائد يتصور بالحق وبغير الحق أنه صاحب الأولوية في أن يرث منصب الرئاسة من دون انتخابات ولا استفتاءات، ولمَ لا وهو الذي حبس الرئيس نفسه وأزاحه بنفسه، وقرأ بيان الانقلاب بنفسه وقتل الآلاف بأمر. لكن القدر مع هذا كان قد استبقى عددا من القادة العسكريين النافذين والمؤثرين الذين يسبقونه في الأقدمية والتخرج والسن والخبرة، ويعتقد كثيرون منهم بما لا يقل عن رقم بالمئات أن من الظلم أن يأتي قائد الانقلاب ليكون رئيسا عليهم وعلى المصريين قسرا واقتدارا.
وهنا يبدأ القادة العسكريون إدراك معنى احتياجهم للسياسة، فلو أنهم كانوا قد فهموا السياسة أو درسوها وهم في المستويات العليا لأدركوا ما ينبغي عليهم فعله، وما ينبغي عليهم تركه، لكنهم تصوروا السياسة جنديا يأمرونه فينفذ أو ضابطا متوسطا يفوضونه فينجز فإذا بها أصعب من تصور هؤلاء القادة لها، وإذا البطولة شيء آخر غير ذلك الذي صورته الأعمال القديمة. وقد تطور حجم هذه المشكلة الكبيرة إلى حد أن مواصفات البطولة بدأت في التشكل والتحور تبعا لتجارب وخبرات ذهنية قديمة بعضها يمكن وصفه بأنه منحرف أو شاذ، لكن التصور الملح لضرورة وجود بطل يتمتع بما هو غير طبيعي يكاد يجعل هؤلاء المتصورين يرحبون أو يضحون بالبطل حتى لو أنه استبعد أو جمع كل ما أمكنه من المثالب الشخصية من خيانة وشذوذ وعهر ودياثة وفحش وكذب وافتراء. وهكذا تحورت صورة خلال شهور من صورة تقترب من الكمال في الشخصية إلى صورة تقتصر على فعل واحد يغفر العيوب المتضمنة جميعا ويعلي من قيمة العنصر الواحد والفرد الواحد، وهو تحور أو تحول خطير على حياة سياسية ناشئة في بلد لا يزال يعاني آثار الشمولية. |
الثلاثاء، 4 فبراير 2014
تجارب قديمة ومتجددة في تحويل الفرعون إلى رئيس
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق