الجمعة، 13 ديسمبر 2013

لحظة تاريخ ... شجر الدر... فوق فراش بارد




لحظة تاريخ.. شجر الدر.. 
 
 
 
 
 
تصحين الدر

أمرت شجر الدر جواريها: أحضروا كل صناديق جواهري.
كثيرة وثقيلة، مصنوعة من خشب الأبنوس والورد، ومشغولة بالذهب والفضة، فتحوها فامتلأت الغرفة بألوان الطيف، تألق اللؤلؤ الصافي، والذهب الداكن الصفرة، والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر كدم الحمام، والماس المضيء، انعكست ألوانها على وجهها الشاحب، تحسستها بأصابع مرتعدة، كانت باردة ككل شيء يحيط بها.
التفتت إلى الجواري مرة أخرى وأمرتهن: أحضرن الهون.

ظللن واقفات لا يفهمن ماذا تعني، ولكن واحدة منهن كانت أكثر انتباها، ذهبت إلى مطبخ القصر حيث الهون النحاسي موجود في أحد الأركان، تفوح منه رائحة الثوم المهروس والبهار وجوز الطيب، حملت معه الذراع النحاسية الثقيلة وعادت به إلى السلطانة.

وللمرة الثالثة صاحت فيهن: أتركنني وحدي، فخرجن جميعا.

أخرجت قطعة الجوهر الأولى، عصبة مشغولة من الدر الخالص، كانت تغطي بها جبينها فينعكس الضوء الناصع على وجهها، ومنها اكتسبت اسمها وصفتها، بلا تردد وضعتها داخل الهون، بدأت تهوي عليه باليد المعدنية، تقلبت حبات الدر تحاول الهرب، ولكنها واصلت الدق في إصرار، تفككت خيوط الفضة، تشقق الدر وراوغ قليلا ولكنه استكان، انسحق في نحيب مكتوم، حين لبست العصبة للمرة الأولى لم يستطع الملك نجم الدين أن يقاومها، كأن تألق الدر قد كشف عن مكامن الرغبة في داخلها، انساق إليها مسحورا، أخذها إلى فراشه منذ الليلة الأولى التي دخلت فيها قصره، لم يبال بانتظار إعدادها وتجهيزها كما هي العادة مع بقية الجواري، أو حتى تشفى آثار قيود النخاس من حول معصميها.

واصلت شجر الدر الصحن وهي تمتم: لن أدع أي امرأة أخرى ترتديه من بعدي.

كنّ بمن فيهن جواريها الخصوصيات، ينتظرن اللحظة التي تسقط فيها، ليصبح كل شيء نهبا لهن، لم تكن تصحن الدر فقط، كانت تصحن كل ذكرياتها مع الملك نجم الدين، تتساءل في حرقة، كيف تدهور بها الحال إلى هذا الحد، كيف أصبحت ملكة مصر، عصمة الدنيا والدين، مهددة من كل كلاب مصر، كيف هتك سترها،وتبددت هيبتها،وأصبحت نهبا لكل طامع أو حقود؟

رحلة مع ميت

في ليلة مريرة ودعت سيدها ومولاها، الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان النهر ساكنا، والسفينة جاهزة بملاحيها، التابوت في باطنها، لا يعلم ما بداخله إلا قلة معدودة، وكان قائد الجيوش فخرالدين واقفا على حافة السفينة في انتظارها، أقبلت بطولها الفارع، وثوبها الأبيض المطعّم بالدر، إلهة قمرية تخوض بقدميها في طين الشاطئ، ويبلل الماء البارد حواشي ثوبها، سألها في قلق: هل أحس أحد بنا؟

قالت بعد كل مابذلناه لم أكن لأسمح بهذا مهما كان السبب، بدأ «المراكبية» في ضرب المجاذيف متجهين للجنوب، الموج في عكس اتجاههم، ولكن الريح ملأت الأشرعة،ومن ناحية الشاطئ الآخر هبت رائحة اللحم المحترق، وبدت ألسنة من اللهب مشتعلة في بيوت الطين وصوامغ الغلال، والتفتت نحو فخرالدين متسائلة، هز رأسه في بؤس وهو يقول: كانت هناك معركة طاحنة في الصباح، بدت أشجار النخيل تحت ضوء القمر هي أيضا محترقة الهامات، قالت: إلى متى نستطيع المقاومة؟ قال: طالما بقي هذا الأمر سرا، كان هذا هو بالضبط ما تفعله، تضع الجسد في النعش وتحمل النعش بعيدا قبل أن تفوح رائحة الموت، أمرت «المراكبية» أن يزيدوا من سرعة التجذيف، كانت تريد أن تصل سريعا قبل أن يتحلل البدن، وتعود أسرع قبل أن يشيع الخبر، قالت، أريد أن أهبط إلى قاع السفينة، لا أريده أن يرحل وحيدا للعالم الآخر، أشارت «للمراكبي» أن ينصرف، كانت تريد أن تبقى وحدها معه، تماما مثل ليلتهما الأولى معا، حين أصرت على أن يخلي الجناح كله من الجواري والقهرمانات والخصيان، لم تهدأ رغبتها طوال رحلتها الطويلة من جبال أرمخانيه إلى سفوح الشام، أحبته في تلك الليلة كما لم تحب أحدا من قبل، على الرغم من الأيدي التي تبادله ظلت متأهبة ليضع فيها بذرته ويتكون ابنه «خليل»، الأمل العذب الذي لم يعمر طويلا، الحزن الذي سكن روحها حتى هذه اللحظة، أزاحت غطاء النعش قليلا أمسكت الشمعة وقربتها، تأملت وجهه الذي تكسوه الزرقة، ولحيته المسترسلة، هل استطالت قليلا؟ كانت له ملامح خليل الراحل، همست له: إذا قابلت خليلا قبله عني. أحست برغبة حارقة في البكاء، الرجال الذين أحبتهم تركوها وحدها، انهار الملك عندما سمع خبر سقوط دمياط في يد الفرنسيس، نقطة الضعف على السواحل المصرية، لحظتها هتف الملك في مرارة: أما قدرتم أن تقفوا ساعة أمام الفرنجة؟ ولم يقم بعدها.

اهتزت السفينة وسط دوامات الماء، خيل لشجر الدر أن الملك يشهق، يعاود الموت من جديد، كانت بجانبه في لحظته الأخيرة، أدركت أن المصيبة قد تضاعفت، وأن التخاذل سيصيب الجميع، ستلحق المنصورة بدمياط، وتتسع حدود الدم لتغرق مصر كلها، همست له: اطمئن يا سيدي ومولاي، لم يعلم أحد بموتك حتى الآن، مازالوا يقاتلون وهم يعتقدون أنك خلفهم.

اتخذت شجر الدر هذا القرار وحدها، في اللحظة التي مدت فيها أصابعها وأسبلت عيني الملك الصالح، ظهرت شخصيتها الصارمة، هددت الخدم المقربين بالقتل لوأذيع الخبر، وأمرت الأطباء بمواصلة الزيارة اليومية، وأمرت الكتبة أن يرسلوا لها كل رقع المكاتيب ووقعتها بأحرف الملك، وختمتها بختمه، وواصلت الجلوس خلف الأستار، في كل ليلة تقابل القادة ومقدمي الجنود، وتحدثهم في ثقة: يقول لكم الملك لا تتراجعوا من أمام فارسكور، قاوموا عند أشموم طناح، سدوا منافذ البحر الصغير، هكذا ظل، كان الملك الصامت يتحدث عن لسانها كل مساء، لكنها كان يجب أن تطلع الأمير فخرالدين على ما حدث، فعلى الرغم من هزيمته المخزية وضياع دمياط من يده فإنها لم تجد له بديلا وسط كل هؤلاء المماليك المجلوبين، كانت تقود معركة أكبر من طاقتها، وتواجه تحديا لم تحلم بمواجهته، ولكن لم يكن أمامها إلا أرض محروقة، وليس في ظهرها إلا جثة هامدة، فأين المفر؟

ولكن الجثة لم تكن لتبقى طويلا في قصر المنصورة، كان يجب أن تنقلها قبل أن يشم الجميع رائحة الموت، قررت أن تذهب بها إلى القاهرة، إلى قصر الملك في جزيرة الروضة حيث تختفي كل الأسرار، وأن تبعث بالرسل سريعا إلى ابنه توران شاه في قصره في قلعة «كيفا» على حدود الشام، حتى يأتي ويتسلم ملك أبيه ويكمل معركته.

تواصلت الرحلة، وبدا الزمن يوما ممتدا وثقيلا على صدرها، وأخيرا دارت السفينة حول جزيرة الوراق ودخلت إلى البحر الأعظم حيث توجد قلعة المقياس، آن للجسد المتعب أن يرتاح أخيرا في ثرى قلعته، حضر المغسلون والمكفنون، أقسموا أمامها أن أحدا لن ينبس ببنت شفة، ثم بدأوا عملهم، كان الجسد ضخما ولكنه رخو، أعضاؤه توشك على الانفصال عن بعضها، فهل ينفصل ذلك الملك الشاسع الذي خلفه هذا الرجل، ملك بني أيوب المليء بالجروح؟
فرغ المكفنون من عملهم، استلزم الأمر كمية مضاعفة من الشيح والزعفران حتى لا تنفر الملائكة من رائحته، حفروا قبرا في حديقة القصر، الآن سينام هادئا بين الأسوار دون أن يستطيع الفرنجة الوصول إليه، أمرتهم أن يلفوه في عباءته الخضراء، وعندما حمله الخدم ارتفعت الصرخات الملتاعة من كل مكان في القصر بكى الحرس والخدم وصرخت الجواري، وحاولت شجر الدر أن تسكت الجميع، ولكنها وجدت نفسها تصرخ معهن، أخرجت من جوفها كل الصرخات التي تأخرت طويلا، وأخذت المعاول تهيل التراب على القبر، حتي سدت الحفرة، وارتفعت أصوات المرتلون يرددون آيات القرآن، انسحبت شجر الدر من أمامهم، لكنها لم تعد إلى القصر، عبرت فناء القلعة وهبطت على الدرج المؤدي للنهر، وكان فخر الدين مازال يتبعها، وأشارت للملاحين فطووا الأشرعة وعادت السفينة تسبح مع التيار متجهة للشمال.

عصمة الدنيا والدين

يد الهون مازالت تهوي، تحول كل شيء إلى ذرات وشذرات متكسرة، كان هناك طرق على الباب، وصوت متوسل من أحد الجواري يهتف، افتحي يا مولاتي، هناك أشخاص يلحون في رؤيتك، ولكنها في تلك اللحظة كانت تمسك في يدها بالتاج الذي وضعوه على رأسها عندما تم اختيارها كسلطانة لمصر، تاج من الذهب الخالص المطعم والزبرجد، وضعته هو أيضا وأخذت تهوي عليه، تلوت الحواف الذهبية، وانفصل الجوهر، بدأ الدر في التفتت، التاج الذي وضعته على رأسي لن تلبسه امرأة أخرى، وواصلت صحن كل شيء دون أن تأبه بالتوسلات القادمة عبر الباب.

في تلك اللحظة النادرة، أحنى الجميع رءوسهم أمامهم، القادة الذين حاربوا وأسروا ملك الفرنسيس، ثم تحالفوا وقتلوا توران شاه من بعده، الذين مهدوا الطريق أمامها للعرش، حتى عز الدين أيبك كبير المماليك، الذي قاد خطة قتل الملك السابق، انحنى هو أيضا أمامها، كانت هذه لحظة مجدها التي لن ينساها أحد، ارتعد جسدها وهم يضعون هذا التاج على رأسها، كأنها تتلقى أولى لمسات المتعة، رددوا الحجج الشرعية وقبلوا الأرض فأنعمت عليه بالخلع والأموال، دقت الكوسات وصعد الشيوخ إلى المنابر وهم يهتفون: «واحفظ اللهم الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح»، كانوا جميعا منتشين بالنصر على الرغم من أن الحرائق لم تنطفئ، والجثث لم تدفن بعد، كان ملك الفرنسيس لويس التاسع قد دفع الفدية كاملة، وانسحب ما بقي من رجاله، وتركوا خلفهم مئات القتلى.

كانت أيام الحرب قاسية، والفرنسيس يخترقون مخاضات الطين في الدلتا دون أن يقدر أحد على إيقافهم، وفرسان المماليك يناوشون ويتراجعون.

الصامتون يتحركون

لكن ميزان المعركة تغير، قرر الصامتون أن يكونوا طرفا في الحرب التي تأكلهم ويدفعون ثمنها، كانت قرى الفلاحين تحرق، ومحاصيلهم تصادر، وبهائمهم تباد ونساؤهم تغتصب، لكنهم أدركوا أن الأمور يجب ألا تستمر على هذه الحالة، خرجوا وهم لا يحملون سوى الفئوس والشقارف، وقد ربط كل واحد منهم على رأسه إحدى «حلل» الطهي المعدنية بدلا من الخوذة، وأمسكوا في أيديهم أغطية الحلل بدلا من الدروع، هجموا على مؤخرة الفرنجة، على فرسان الهيكل ونبلاء أوربا، من فرنسا روبرت دي ارتوا وشارل دي إنجو وبيتر دو بريتاني ومن نبلاء الإنجليز وليم اوف سليزبوري ومن اسكتلندا باتريك أوف دونبار، بأتباعهم وخيولهم وعتادهم، هجموا على هؤلاء جميعا في لحظات من اليأس والقنوط، لم يصدقوا أن هؤلاء الفرسان المدرعين ذوي الألقاب الفخمة قابلين للموت.

حرق الفرنجة قراهم في النهار، فحرق الفلاحون خيامهم في الليل، قتلوا بهائمهم فأصابوا خيولهم، تعلم الصامتون أن المقاومة لا الاستسلام هي التي تبقيهم على قيد الحياة، تجمع الفلاحون من كل القرى البعيدة وانضموا إليهم، كان الأمر أكبر من أن يتم ترك فلاحي المنصورة وحدهم، وحتى الصيادون جاءوا من الإسكندرية ورشيد وفارسكور والمنزلة، شاهدوا سفن الإمدادات الطويلة التي سيرها الفرنجة في البحر الصغير للنيل، تمر عليه المؤن والعتاد آتية عبر البحر من أوربا إلى دمياط، ومنها تبحر عشرات السفن الأصغر حجما إلى البحر الصغير حاملة الرجال والمؤن والسلاح، إلى معسكر جيش الصليب على حدود المنصورة، ربض الصيادون يراقبون السفن، انتظروا حتى دخلت واحدة منها إلى مخاضة الطين، البقعة التي تكون فيها مياه النهر أقل ارتفاعا والسفن أبطأ حركة، كأنها بطة عرجاء، كانت هذه فرصتهم ليهجموا، استولوا على السفينة الأولى وقتلوا كل من فيها من ملاحين، استولى الصيادون والفلاحون على عشرات السفن، سحبوها واحدة وراء الأخرى، عبروا بها الأرض المحروقة، أنزلوها في الجهة الأخرى من النهر حتى أصبحت تحت إمرة الجيش المحارب، وسدت الطريق إلى المنصورة.

اكتشف الفرنجة أن النهر قد أصبح فجأة خاليا، كأن مياهه قد تحولت إلى رصاص ذائب، ناء وكثيف ومعاد، جفت الإمدادات، انقطعت الصلة بدمياط التي كان الملك لويس التاسع قد اختارها عاصمة لمملكته فيما وراء البحار، حتى أوربا لم تعد موجودة، قام فرسانه بهجوم يائس على المنصورة، ولكنهم انسحقوا، قتل صفوة جيش الفرنجة وأعظم الأسماء فيه، وظلت بقية الجيش محاصرة لاتستطيع التراجع ولا تقوى على الصمود، وعندما هجم عليهم فرسان المماليك كانوا مستسلمين لمصيرهم، وتوسل الملك إليهم باكيا حتى لا يقتلوه، ساقوه أسيرا إلى دار ابن لقمان، داخل حواري المنصورة التي كان يحلم بغزوها، بقي سجينا فيها لمدة 22 يوما، بينما كانت أوربا كلها تعتقد أنه انتصر، وأن سلطان مصر قد عرض عليه ولكنه رفضه حتى لا يحكم أمة من الكفرة، ولكن أصحاب النصر الحقيقيين كانوا يحتفلون بطريقة مختلفة، كل واحد كان ينسبه لنفسه، اعتقد السلطان توران شاه أنه انتصر بسبب قسوته على الأعداء، والمماليك لشجاعتهم في المواجهة الأخيرة، وشجر الدر لحكمتها في لحظة فارقة بين النصر والهزيمة، ولم يأبه أحد بالصامتين الذين عادوا إلى حقولهم المدهوسة وقراهم المحترقة، يدفنون موتاهم ويآسون جرحاهم ويغرسون بذور الموسم المقبل.

بيعة ناقصة

خلف الباب أصبحت الضجة أعلى من المعتاد، اختفت أصوات الجواري وحلت بدلا منها أصوات أجشة لرجال غاضبين، تحولت التوسلات إلى أوامر: افتحي الباب وإلا سنكسره وندخل رغما عنك، لم تأبه بهم، كان باب غرفتها أقوى من هذه التهديدات الجوفاء، تعودت أن تغلقه جيدا حتى لا يغتالها أحد وهي نائمة، واصلت صحن مجوهراتها بالإصرار نفسه.

فقط ثمانون يوما قضتها على عرش السلطنة، جلست على عرش الأيوبيين بعد أن كانت جارية في قصورهم، انحنى أمامها القادة المنتصرون الذين رفضوا توران شاه، هم أيضا نالوا مكاسبهم، دخلوا الحرب مماليك مجلوبين وخرجوا منها أمراء، ولكن بيعتها ظلت ناقصة، كان يجب أن يأتي رسول بني العباس، حاملا خلعة الخليفة «المستعصم»، يضعها على كتفها ويعلن مباركته لسلطنتها، كان هذا هو الإجراء الذي حرص عليه بنو أيوب منذ أزالوا ملك الفاطميين وأعادوا الدعاء لبني العباس، إجراء تقليدي ولكن لابد منه، حدث قبلها مع سبعة سلاطين دون أن يعترض الخليفة على واحد منهم، لذا أعدت شجر الدر بنفسها مراسيم استقبال المبعوث، وأشرفت على تجهيز الهدية التي سيحملها عائدا إلى بغداد، وصعدت إلى قلعة الجبل حيث اجتمع حولها الأعيان والأمراء ومقدمو الجند وقضاة المذاهب الأربعة، شخصت العيون للمبعوث وهو يدخل القاعة، لم يكن يحمل الخلعة السوداء، فقط رسالة مطوية عليها ختم الخليفة، كلماتها قليلة ولكن باترة: إذا لم يكن لديكم رجال، فأخبرونا لنرسل لكم من يصلح للحكم، ما أفلح قوم قط ولوا شئونهم امرأة.

أحست فجأة أنها عارية تحت أنظار الجميع، نهضت من على العرش ودخلت للحريم،أسدلت خلفها كل الأستار، كان الخليفة العباسي قد حقق انتصارا في بلد بعيد، لا يستطيع أن يحققه في بلده التي يهددها المغول، كات تستطيع أن تقاوم، أن ترفض الخطاب وتقتل حتى المبعوث، ولكن البيعة ستظل ناقصة،تستطيع أن تفرق العطايا والتقادم، وأن تستميل العامة وتضع المعترضين في سجن «المقشرة»، ولكن هذا أيضا لن يكمل بيعتها، رفضت أن تقابل الجميع، ولكن واحداً منهم أصرعلى مقابلتها، القائد عزالدين أيبك، كان أقوى من أن ترفض مقابلته، كانت تخشى حضوره، لكنها خرجت لمقابلته، وعندما جلس في مواجهتها، أحست على الفور أنه يضع نفسه ندا لها، كان يحمل لها عرضا لا يمكن رفضه، لأنه ينقذ عرشها، أونصفه على الأقل، كان يعرض عليها الزواج، وعندما شهقت مندهشة، أكد أنه لا يريد أن يحولها من ملكة إلى زوجة كما تعتقد، لكنه يريد حل الإشكال الذي خلقه الخليفة وأن يكون بجانبها رجل تعتمد عليه في حكم هذا البلد الصعب.

فوق فراش بارد

ولكن عندما جمعهما الفراش في الليلة الأولى لعرسهما، أدركت أنها قد أساءت الاختيار، كان قد قبل بسهولة كل الشروط التي فرضتها عليه، ألا يحاول أن يقصيها عن العرش، وأن يأخذ بمشورتها في كل أمر، ولكن أهم شروطها هو ألا يرى زوجته القديمة «أم علي» ولا يذهب إليها بأي حال من الأحوال، كان وجود جسد آخر ينافسها مهينا لجسدها، وقبل «أيبك» بالشروط بلامبالاة.

واصلت الدق بيد الهون، تتناثر الذرات الحمراء، خرجت مندفعة من الهون، نثار من البلورات التي تشع منها ألوان متكسرة، ازداد عنفها وهي تهوي برأس الهون، كانت تعيش مع «أيبك» على حافة السكين، تكره كل شيء فيه، تكره سطوته وتكبره كان هو أيضا يكره إصرارهاعلى أن تظل ملكة، ويكره القادة الذين يقدمون فروض الطاعة والولاء وأعينهم عليها، أصبح فراشهما باردا، يضم جسدين متباعدين، بدأ يسعى لزوجته «أم علي» سرا، ولكن النهاية جاءت حين استولى أحد أتباعها على رسالة كانت قادمة لأيبك من صاحب الموصل، كانت تحمل ردا واضحا على رسالة أرسلها «أيبك» إليه يطلب منه الزواج بابنته ويعده فيها أن تكون ملكة على مصر، أخذت شجر الدر تغلي من الغضب، أدركت أن الأمور بينهما وصلت إلى مرحلة اللاعودة.

في تلك الليلة استدعته إلى فراشها، أعدت له الحمام بنفسها، عطرته بمزيج من زهور طبيعية مقطرة من جبال الأرز، وأشعلت أخشاب البخور، ساعدته على خلع ملابسه، وهبط إلى المغطس أمامها، وذهبت لتحضر لها منامته الحريرية، ولكنها لم تعد إليه، أقبل بدلا منها أربعة من الأشداء، يحملون قطعا من الحبال المجدولة من القنب، لم يمكنه بخار الماء من رؤيتهم بوضوح،كانوا أشبه بظلال سوداء متداخلة، تقترب منه وتحيط به، وقبل أن يعرف ما حدث كانت الحبال تلتف حول عنقه، وتخنق أوردته، وسمعت شجر الدر صرخاته المخنوقة وهو يحاول الاستنجاد، وقالت في سخرية، دع عروس الموصل تهب لنجدتك.

وتوقفت عن دق الهون، كان ذراعها قد أصابها الكلل، وكل ثروتها من الجوهر والدر قد تحولت إلى شذرات متناثرة، حطام كحياتها وذكرياتها، الدقات على الباب قد أصبحت أعلى وأشد، كانت الجدران ترتج، والباب يوشك أن ينخلع من مكانه، لكنها لم تتحرك من مكانها، كل شيء قد انتهى ولم يعد في القلب منزع لكل هذه الخيانات، نال أيبك ما استحق، وعليها أن تحمل غضبة أتباعه وزوجته الغيرى، أخذ الباب في الانفصال عن الجدران، تهاوت الأتربة والأحجار الصغيرة، ثم هوت الضلفتان على الأرض، وظهر الذين خلف الباب، لم يكونوا جنودوا، ولا مماليك من أتباع أيبك، كانوا جمعا من العبيد الأشداء، يمسكون في أيديهم قباقيب خشبية، شهقت وهي تتطلع إليهم، أحست بإهانة بالغة، هتفت:

 - هل هذا ما تحملونه لقتلي؟

قال كبيرهم: هذا ما أمرتنا به سيدتنا «أم علي». هووا عليها بالقباقيب في وقت واحد، في اليوم التالي وجدت جثة الملكة المصونة ملقاة في خندق القلعة، تنهش جثتها كلاب الطرق، بينما استدعت أم علي المماليك وأكابر القوم ووزعت عليهم طبقا من الحلوى باللبن مازال يحمل اسمها حتى اليوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من فضاء المعرفة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق