كيف ضرب الحجاج المسجد الحرام ؟
هكذا قال علي بن أبي طالب كما نقل عنه وتحدث أحمد بن داود الدينوري في كتابه (الأخبار الطوال).
فهل كان علي بن أبي طالب يخاطب قوما انخذلوا عن عدوهم منذ ألف وثلاثمائة وتسعين عاما... أم كان يخاطب قوما جاءوا اليوم بعد كل هذه السنين يفعلون الشيء نفسه, ينخذلون عن عدوهم ويعرضون أنفسهم لمهانة من ضعف الهم والغم. ويسكتون على من غزاهم في عقر دارهم, فذلوا واجترأ عليهم عدوهم, ومع ذلك فقد اتخذوا من الصمت والسكوت وتفرق الرأي سلاحا يواجهون به العدو الذي اجترأ عليهم. فراح يقتل ويذبح ويدمّر ويصنع مآسي دير ياسين وقبية وجنين وصبرا وشاتيلا, ويشق الصفوف بالخديعة والمكر, ويستولي على الأرض تلو الأرض, ويهدم البيوت على أصحابها ليمزّق العرب بعضهم بعضا, وتنقسم جماعاتهم وتنهار وحدتهم, وتنغرس سيوفهم في صدور إخوانهم بدلا من صدور أعدائهم ؟
هل يعيد التاريخ نفسه حقا ؟
إن التاريخ الذي خط سطوره المؤرخون العرب القدامى من أمثال أحمد بن داود الدينوري هو مرآة حية لأحداث الماضي كما هي أحداث الحاضر. وهكذا نرى في (الأخبار الطوال) الذي كتبه عام 227 هجرية أي قبل أكثر من ألف ومائتين من السنين.
شيع وطوائف متنابذة
هكذا يكشف العوامل الذاتية والاتجاهات الشعوبية التي قوضت أركان الكيان العربي وفرّقت المذهب الإسلامي إلى شيع وطوائف متنابذة, نسيت في خضم نضالها السياسي الأهداف السامية التي قامت على تحقيقها الدولة الإسلامية.
ويتوسع الدينوري في تناول المتاعب التي لحقت بالمسلمين بعد مقتل عثمان بن عفان, ويصوّر حرب صفين مبتدئا بأبرز فصل من فصولها التاريخية, ويفصل في المنافسة بين علي ومعاوية, ويحكي تاريخ الخوارج وما آل إليه أمرهم, ولا يفوته أن يبرز قصة مقتل علي بن أبي طالب على يد عبدالرحمن بن ملجم, وتاريخ الحسين بن علي, فيذكر حياته وأعماله, ويصف معركة كربلاء وصفا دقيقا مؤثرا ومبينا أسبابها, وموضحا تخاذل أهل الكوفة عن نصرة إمامهم الذي دعوه إليهم مما كان له أثره في تفتيت الجبهة العربية, وهو التفتت والتمزّق الذي شهدته الجبهة العربية بعد ذلك التاريخ.
ضرب المسجد الحرام
ونقرأ في صفحة أخرى من صفحات (الأخبار الطوال) قصة ضرب المسجد الحرام في مكة, وهل أبشع من أن يقوم الحجاج بن يوسف الثقفي بأمر من الخليفة الأموي في دمشق بضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق بعد محاصرة مكة متعمّدا لقتل عبدالله بن الزبير ورجاله بعد رفضه البيعة للخليفة الأموي وإعلان نفسه خليفة على الحجاز والعراق واليمن, وكان قد سبقه إلى مثل ذلك الحصين بن نمير, في عهد يزيد ثم معاوية الثاني, الذي أوقف القتال بعد وفاة معاوية الثاني, وأرسل إلى عبدالله بن الزبير أن الذي أمره بذلك قد أراحنا الله منه, فافعل ما بدا لك. فلما جاء عبدالملك بن مروان وأخرج العراق من وقفته بجانب الزبيريين بالمكر والخديعة والمال, ثم أراد الرجوع بجيشه إلى دمشق دون مقاتلة عبدالله بن الزبير, قام إليه الحجاج يقول: (يا أمير المؤمنين إني رأيت في منامي أني أخذت عبدالله بن الزبير فسلخته فابعثني إليه وولني قتاله).
وفي الحق أن عبدالملك كان يربأ بنفسه عن مقاتلة أهل بلاد الحجاز. إذ كانت معقلا للعنصر العربي الأصيل وموئلا لبني هاشم الذين لم ينسوا انتزاع بني أمية حقهم في الخلافة, كما كانوا يحقدون على الأمويين نقلهم حاضرة الخلافة من مدينة الرسول إلى دمشق الشام. وهو ما أثار أبناء الصحابة الذين يعارضون مبدأ الوراثة في الخلافة.
وكان عبدالملك يدرك أن الجيش الذي يوجهه لقتال عبدالله بن الزبير لابد مضطرا إلى غزو مكة وحصار ابن الزبير في الكعبة, فرأى ألا يتحمل هذه المسئولية الخطيرة, ورأى أن يلقيها على قائده الحجاج بن يوسف الثقفي الذي طلبها منه بنفسه..!
خرج الحجاج في سنة 72 هـ في ألفين من جند الشام قاصدا مكة معقل ابن الزبير, وبدأ الحجاج في مناوشة عبدالله بن الزبير ليقف على قوته الحقيقية وليبث الرهبة والخوف في نفوس أنصاره, وحين أدرك الحجاج ضعف جند ابن الزبير بعث إلى الخليفة عبدالملك يستأذنه في قتال ابن الزبير وحصار الكعبة ويطلب مددا.
ووافق الخليفة وأرسل إليه مددا من خمسة آلاف جندي, واستعد الحجاج للضرب, ونصب مجانيقه محملة بحجارة من جبل أبي قبيس. في ذلك الوقت كان المسلمون يستعدون لأداء فريضة الحج في ذي القعدة سنة 72 هـ, ونزل الحجاج قرب بئر ميمون وأراد أن يحج بالناس, ولكنه لم يستطع الطواف بالكعبة أو السعي بين الصفا والمروة حيث منعه ابن الزبير من ذلك. فانطلق الحجاج ليأمر بضرب بيت الله بالحجارة.
ولكن عبدالله بن عمر بعث إليه ينهاه عن قذف الكعبة بحجارة المنجنيق وقال له: (اتق الله يا ابن الثقفي واكفف هذه الحجارة عن الناس, فإنك في شهر حرام وبلد حرام, وقد جاءت وفود الله من أقطار شتى من الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرا, وإن المنجنيق قد منعتهم من الطواف, فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة), ورأى الحجاج أن ينتظر حتى ينتهي الناس تماما من الحج.
موقف مشرّف لأسماء
ما أن انقضى موسم الحج حتى فوجئ أهل مكة بحجارة الحجاج تنقضّ عليهم ويصيب وابل منها جدران الكعبة المشرفة فينهار منها جزء كبير. وتدافع الناس يهربون من الموت الذي أخذ يلاحقهم به ابن الثقفي الذي كان كل همّه أن تصيب حجارته عبدالله بن الزبير ليعلن استسلامه. وصوّر المؤرخ الطبري حرج موقف ابن الزبير فقال: (فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في طلب الأمان, ولكن الحجاج ظل يضرب ويعذب حتى أخذت به نشوة الانتصار.
وذهب ابن الزبير إلى أمه أسماء بنت أبي بكر ينتصحها فقالت له: (إن كنت قد وليتها وأنت تعلم أنك على حق فامض له. فإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار, وكم خلودك في الدنيا? القتل أحسن) ومضى ابن الزبير وانقضّ يهاجم جيش الشام, ولكن لم يلبث أن أصابه حجر في جبينه فسقط صريعا, وأراد الحجاج أن ينكل بابن الزبير بعد أن قطع رأسه وأرسله للخليفة ثم أمر بصلب جثته..!
ولم يكد الحجاج يأمر بصلب جثمان ابن الزبير حتى بلغته رسالة الخليفة عبدالملك ينهاه عن ذلك ويقول له: (لا يغرنك انتصارك فيفقدك رشدك فافعل فعل الشرفاء ولا ترتكب الدنية, وفك قيد جثمان ابن الزبير عن صليبك وسلّمه لأمه أسماء لتدفن جثة ولدها, ولا تلحق بنا نقمة السماء)
ــــــــــــــــــــــــ
من فضاء المعرفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق