الخميس، 5 ديسمبر 2013

أى ملك عظيم هو ... ؟ رمسيس الثانى .... نجم الأرض



رمسيس الثانى: نجم الأرض

فى الثانى والعشرين من فبراير كل عام، تشرق الشمس على وجه الملك رمسيس الثانى، نجم الأرض فى قداسة أقداسه بمعبده الكبير بأبو سمبل، فأى إعجاز هندسى فلكى هذا وأى ملك عظيم هو ؟!

تربع الملك رمسيس الثانى على عرش مصر لما يقرب من سبعة وستين عاما سطر خلالها أزهى صفحات تاريخ مصر القديم، صفحات تختلط فيها الحقيقة التاريخية بالأسطورة الناتجة عن الإعجاب الشديد بشخصه وأعماله وإنجازاته، والتى جعلته واحدا من أهم ملوك العالم، بل إن البعض يصفه بأنه أعظم ملك فى التاريخ. عرف رمسيس الثانى كيف يحكم بلاده ويفجر طاقات شعبه ويكون أعظم إمبراطورية فى التاريخ.
ولد رمسيس الثانى فى أسرة عسكرية عريقة فجده هو رمسيس الأول الذى كان وزيرا وقائد للجيوش فى عهد الفرعون " حور محب " آخر فراعنة الأسرة الثامنة عشر، والذى أسس من بعد ذلك الأسرة التاسعة عشرة، وكان رأس ملوكها وأنجب وريثه على العرش سيتى الذى تزوج فى شبابه من " توايا " ابنه قائد سلاح العربات الحربية، وكون الشابان أسرة صغيرة، توفى طفلهما الأول، لكن الأقدار عوضتهما بطفل ثان نال من الشهرة والخلود فى ذاكرة التاريخ ما لم ينله ملك سواه، إنه الملك رمسيس الثانى.

وتولى معلمو ومربوا القصر الملكى أمر تنشئة ورعاية وتهيئة الأمير الصغير لولاية العرش من بعد أبيه الملك سيتى الأول، وذلك تحت الإشراف الكامل لجلالة الملك. وتقتضى أمور تلك النشأة والتهيئة تعليم الأمير أصول الكتابة والقرءاة والحساب والدين والبروتوكول الملكى هذا بالنسبة للتعاليم المدنية، أما بالنسبة للتعاليم العسكرية والأمور الإدارية فكان الأمير يتلقى تدريبا عسكريا كفيلا بأن يجعله يشترك فى الحروب الخارجية، ويقوم بمهام تفتيشية ليطلع على سير الأعمال الإدارية والإنشائية وغالبا ما كان يرافق أباه الملك فى نهاية. ونال الأمير الصغير من ثقة أبيه الملك الشئ الكثير مما جعله يشركه معه فى الحكم وهو لم يزل فى السادسة عشر من عمره.

وفى صيف 1289 قبل الميلاد، توفى فجأة الملك سيتى الأول فى الخمسين من عمره بعد أن حكم مصر ستة عشر عاما، تاركا العرش والإمبراطورية لنائب الملك، ابنه رمسيس الثانى ليصبح ملكا مطلقا على عرش مصر.
تولى رمسيس الثانى مقاليدا الحكم فى أرجاء الإمبراطورية المصرية فى حوالى الخامسة والعشرين من عمره. ولم تدم فترة الهناء طويلا فى حياته إذ بدأت بعض المناوشات تترى على الحدود الشمالية الشرقية، وتهددأ من الأمبراطورية، وتمثلت فى قيام دولة الجيش بالاعتداء على الممالك التابعة لمصر فى آسيا ومحاولة الاستيلاء عليها.

معركة قادش

أراد ملك الحيثيين الطموح " مواتاسيليى " توسيع أرجاء مملكته بضم بعض الممالك الآسيوية التابعة للنفوذ المصرى. فقاد حلفا من ست عشرة مقاطعة ومملكة حليفة له لغزو مملكة " أمورو " على الساحل الفينيقى، وبلغ عدد هذه القوات 2500 عربة حربية وفرقتين قوامهما 18000 و 19000 مقاتل على التوالى. 

ولم يكن الملك المصرى رمسيس الثانى غافلا عما يهدد حدوده الشمالية الشرقية، فما إن بلغته أنباء هذه الحشود حتى سارع بوضع خطة للحرب وحشد قواته من مشاة وعربات قتال وحملة الأسلحة المختلفة، وسار رمسيس على راس جيشه الذى قسمه إلى أربع فرق: آمون، رع، رتاح، ست، وهى أسماء كبار المعبودات. وسار الملك على رأس فرقة آمون، أكبر فرق الجيش، متخذا الطريق البرى إلى كنعان مرورا بجنوب سوريا حتى يصل إلى قادش، بينما سارت الفرق الأخرى على الطريق الساحلى. وأثناء مسيرة الملك، قبض جنوده على اثنين من البدو، أبديا رغبتهما فى مقابلة الملك بدعوى أنهما يعرفان ما يفيده فى حربه مع الحيثيين، وسمح لهما بمقابلة جلالته والمثول بين يديه، وأخبرا جلالته بأن الحيثيين وملكهم قد عسكروا فى حلب فى الشمال ويخشون التقدم التقدم نحو الجنوب منذ سماعهم بزحف الفرعون نحو الشمال. وسر الفرعو بسماع هذه الأنباء واعتبر ما قيل هو الحقيقة ولم يحاول هو ولا مخابراته استجواب الرجلين أكثر من ذلك. وسارع الملك بعبور السهل المؤدى إلى قادش تتبعه فرقة آمون. وتقع قادش بين نهر العاصى وبين رافد آخر يجرى إلى الغرب منها ويصب فى النهر نفسه، وشق أهل المدينة من الرافد قناة صناعية تصبح فى النهر إلى الجنوب من المدينة، وبذلك تحولت قادش إلى جزيرة منيعة يصعب اختراقها وما إن عبر رمسيس وفرقته الراقد الغربى حتى شرعوا فى نصب معسكرهم فى مواجهة المدينة.

 وفى هذه الأثناء تمكنت إحدى الدوريات من أسر جاسوسين من الحيثيين، واللذين أطلعا الفرعون بحقيقة وضع جيش الحيثيين خلف قادش وأنهم على أتم الاستعداد للقتال، وأن ما أخبر به الفروع كان خديعة من قبل الحيثيين. غلبت ثورة الغضب الملك وجمع هيئة القيادة العليا وأبناهم بحقيقة الأمر، وشرع فى اتخاذ إجراءات مضادة فعالة وسريعة تحسيا لهى هجوم مفاجئ. كانت فرقة رع قد بدأت تعبر السهل نحو المعسكر، ولكن فرقتى بتاح وست كانتا متأخرتين ولم تعبرا نهر العاصى بعد وأرسل الملك وزيره لاستعجال فرقة بتاح ومعه رسالة مختصرة: " اسرعوا بالزحف! سيدكم الفرعون يقف فى المعركة وحيدا "

. ظهرت عربات الحيثيين الحربية وأخذت تطيح بفرقة رع التى فوجئت بالهجوم، فشقتها شطرين. وكانت فرقة آمون حتى هذه اللحظة سليمة لم تمس. وعند رؤية الفارين أمام عربات العدو تفرق شمل فرقة آمون أيضا واندفعت عربات الحيثيين تطوق المعسكر.

 وبات من المؤكد أن الفرعون سوف يهزم وأن احلام ملك الحيثيين سوف تتحقق بالقضاء على رمسيس وإمبراطوريته. لم يذهل الموقف رمسيس وحاول حشد قواته وشد أزرهم. وابتهل الفرعون إلى ربه آمون: " لماذا يا أبى آمون ؟! كيف يتجاهل الأب ابنه ؟! كيف تنسى ما فعلته من أجلك ؟! ألم أفعل كل ما هو نافع لك ؟! لم أهمل فى حياتى أمرا لك قط ! كيف تسمح للغرباء بأن يعوقوا طريق ملك نصر العظيم؟! ماذا يعنى هؤلاء بالنسبة لك يا آمون ؟ !... فلتساعد من يعتمد عليك، حتى يتفانى فى خدمتك بقلب منشرح. فأنا بين الأجانب وكل البلادة محتشدة ضدى، فأنا وحيد ولس معى أحد، هجرتنى قواتى الغفيرة، ولا ينظر نجوى أحد من رجال العربات الحربية، سأظل أصوب السهم نيابة عنهم إلا أنهم لن يستجيبوا لندائى، أدرك أن آمون يؤازرنى أكثر من مليون جندى، أكثر من مائة ألف عربة، أكثر من عشرة آلاف من الخوة والأبناء المتحدين على قلب رجل واحد، فآمون أكثر منهم عونا.

 لقد أتيت إلى هنا نزولا على أمر يا آمون، لم أخالف أمرك، الآن أبتهل وأصلى فى الأرض البعيدة. إن صوتى يترادد فى طيبة وحينما دعوته جاءنى وأمد لى العون وسعدت ونادى على من بعيد كما لو كان قريبا: للأمام، أنا معك فأنا والدك ويدى معك فأنا أفوق مائة ألف من الرجال، أنا سيد الانتصارات، محب القوة ".

وتجلت شجاعة الملك فراح ومن معه يدافعون ويصدون هجوم الحيثيين فعاد الفارين وتكونت داخل المعكسر المصرى نواة صلبة من المقاومة. واقتحم رمسيس الثانى صفوف الحيثيين نحو الجنوب حتى يتمكن من الالتحام بفرقة بتاح. ووصلت النجدة فرقة التنعارين وهى فرقة من الشباب كلفهم الملك تأمين الطريق الساحلى، ثم الالتحام بالجيش عند قادش فانهارت أمامهم عربات الحيثيين الحربية. فدفع ملك الحيثيين مواتاسيلى بألف عربة حربية أخرى بميدان القتال، ولم يفحلوا أمام بسألة وقوة الجيش المصرى وصموده، الذى اتخذ من قائده رمسيس الثانى المثل الأعلى فى الكفاح والقتال وتمكنوا من هزيمة العدو الذى فر افراده وألقوا بأنفسهم فى مياه نهر العاصى، وزادت قوة المصريين بوصول فرقة بتاح وأصبحت لهم اليد العليا فى ميدان القتال.

وفى اليوم التالى حثت مناوشات بين الفريقين لم يتسطع أى منهما حسم الموقف لصالحه. ووفقا للنصوص المصرية فإن مواتاسيلى ملك الحيثيين أرسل رسله فى طلب الهدنة ووقف القتال. فجمع رمسيس الثانى مقترحات الحيثيين ليستشف ما فى صدورهم فقالوا فى نفس واحد: " السلام شئ عظيم يعلو على كل شئ يا مولانا الملك، ولا يوجد من يعارض التسوية إذا أربرمتها أنت فمن ذا الذى يجرؤ على الوقوف فى طريقك يوم غضبك ". فقبل رمسيس الثانى تلك الهدنة على أمل العودة للاستيلاء ثاينة.

رجل الحرب والسلام

وما إن قف الملك رمسيس عائدا إلى أرض الوطن حتى أعلنت المدن السورية والفلسطينية الثورة والعصيان ضد الحكم المصرى بل أخذ مواتسيلي يستولى على المدن الواحدة تلو الأخرى وأهمها قادش وأمورو. فخرج الملك رمسيس الثانى فى العامين السادس والسابع ليعيد الاستيلاء على عسقلان، ثم على منطقة الجليل ودبور فى أمورور فى العام الثامن، وعلى تونب فى العام العاشر. وثبتت هذه الحملات دعائم الحكم المصرى فى سوريا وفلسطين لكن هذا الصراع المستعر بين مصر وخيتا قد أرهق الجانبين وكلفهما الكثير.

 فى الوقت الذى بزغت فيه قوة الأشوريين كقوة جديدة على مسرح الأحداث تهدد أمن إمبراطورية الحيثيين فى الشرق الأدنى، وكانت مصر أيضا تتعرض لهجمات شعوب البحر. هنا أدرك الجانبان المصرى والحيثى عدم جدوى الحرب بينهما وقررا عقد معاهدة سلام وتآخ بينهما.

وفى العام الحادى والعشرين من حكم رمسيس الثانى وفد إلى مصر رسولان من ملك خيتا ومعهما لوحة من الفضة بها طلب السلام من جلالة رمسيس الثانى وضرورة استئناف العلاقات الودية بين البلدين وعدم نشوب الحروب والمناوشات بينهما وعقد معاهدة " صلح طيب وإخاء حسن ".
وتقول نصوص المعاهدة: " إن أمير خيتا العظيم اتفق مع حاكم مصر العظيم على أنه بدءا من هذا اليوم سيسود بيننا السلام الطيب والأخوة للأبد، فهو فى أخوة معى، وهو فى سلام معى، وأنا فى أخوة معه وأنا فى سلام معه، إلى الأبد.
وسيكون أبناء أبناء أمير خيتا العظيم فى أخوة وسلام مع أبناء أبناء حاكم مصر العظيم، لأنهم سيكونون على عهدنا للأخوة والسلام، وستكون أرض مصر وأرض خيتا فى سلام وأخوة مثلنا إلى الأبد، ولن تنشب عدواة بينهما أبدا.
ولن يغير أمير خيتا العظيم على أرض مصر للأبد، ليستولى على أى شئ منها، ولن يغير حاكم مصر العظيم على أرض خيتا، ليستولى على أى شئ منها للأبد.

وإذا ما تقدم عدو ضد أراضى حاكم مصر العظيم فإن أمير خيتا العظيم سيأتى إلى حاكم مصر ليذبح أعداء ملك مصر العظيم ".

ومن أجل تدعيم أواصر السلام والود بين الدولتين، أرسل ملك الحيثيين ابنته إلى مصر لكى يتزوجها الملك رمسيس الثانى، وبالفعل وصلت الأميرة الحيثية إلى مصر فى موكب مهيب، واستقبلها الملك فى القصر الملكى وخلع عليها اسما مصريا، وأصبحت الأميرة من الملكات الشهيرات وشاركت الملك فى العديد من المناسبات الرسيمة.
وتعتبر هذه المعاهدة من أولى معاهدات السلام المدونة تدوينا كاملا فى التاريخ، وحقق بذلك الملكان سلاما عاما فى منطقة الشرق الأدنى دام قرابة خمسة وسبعين عاما متصلة لم ينعم بها هذا الجزء من العالم حتى وقتنا الراهن.
وما إن اعتلى رمسيس الثانى عرش مصر حتى أظهر نشاطا منقطع النظير فى مجال البناء جعله سيدا للنبائين بحق طوال عصور التاريخ المصرى. فلم يستطع أى حاكم مصرى آخر أن ينافسه فى ذلك. فبدأ فى تشييد معبد الرامسيوم فى الأقصر ومعبده الخاص بأبيدوس ومقبرته الرائعة بوادى الملوك " قبل أن تنهدم " ومعبدبتاح فى منف ومعبدى أبو سمبل، ومعابد بيت الوالى ومعبدين فى وادى السبوع فى النوبة، وأضاف صالة وصرحا ومسلتين أمام واجهة معبد الأقصر وصالة الأعمدة الكبرى بمعبد الكرنك والتى تضم 152 عموا وبدأ العمل فيها أيم والده الملك سيتى الأول.
وازدانت أرض مصر جميعا بتماثيل رمسيس الثانى مختلفة الأحجام والهيئات، ونالت آثار أسلافه ومبانيهم قدار كبيرا من اهتمامه، فشرع فى ترميم المنهار منها وإكمال ما لم يتم بناؤه. واعتبر العمائر والمعابد التى شيدها بمثابة تكليفات مقدسة ألقت بها الآلهة إليه. ويرى بعض الباحثين فى الملك رمسيس الثانى مغتصبا لآثار أجداده وذلك بإضافة أسمائه عليها، وهى فكرة غير صحيحة، إذ إن وضع اسم الملك رمسيس الثانى أقوى شخصية فى البلاد على تلك الآثار يعد حماية لها ولن يجرؤ أحد على الاعتداء على أثر يحمل اسم الملك العظيم.

نفرتارى جميلة الجميلات

عرف عن الملك رمسيس الثانى كثرة زيجاته، ومع تعدد زوجاته وكثرتهن، تبقى الأثيرة لديه المكلة نفرتارى. وكانت سيدة بالغة الرقة والرشاقة والجمال والزوجة الرئيسية التى تظهر معه فى الاحتفالات العامة والدينية. وتلاصق تماثيلها تماثيله. وعثر لها على مقبرة رائعة فى وادى الملكات هى الأجمل والأروع بين مقابر وأكثر ما يمز الأقصر من آثار.
وجمعت الملكة فى ألقابها بين الرسمى من الألقاب والمعبر عن إعزاز الملك وحبه لها. فكانت نفرتارى " سيدة الصعيد والدلتا " و " سيدة كل الأراضى " و " عظيمة المديح " و " جميلة المحيا " و " ربة الفتنة " و " حلوة الحب ".

وبلغ من حبه الشديد لها أن شيد لها معبدا منحوتا فى الصخر إلى جواره معبد الكبير بأبوسمبل. وصورت الملكة فى معبدها على هيئة الربة حتحور. وأقيمت لها التماثيل الضخمة إلى جوار تمثال زوجها الملك رمسيس الثانى. وبلغ من عظيم تقديره لها أن حضرت عقد الصلح والتوقيع على معاهدة السلام بينه وبين الحيثيين، بل كانت ضمن من تبادلوا التهانى فى البلاطين المصرى والحيثى آنذاك.

وأنجب الملك رمسيس الثانى عددا كبيرا من الأبناء بلغ مائة وخمسين من البنين والبنات. وأكد هذا ما اكتشفه عالم الآثار الأمريكى " كنت ويكس " فى وادى الملوك حيث عثر على مقبرة أبناء رمسيس ( K.V.5 ). وكان عالم الآثار " جميس برنتون " هو أول من نجح فى الاهتداء إليها فى عام 1835 عندما كشف عن سقف المقبرة وتبعه كل من " هوارد كارتر " و " تيودور دافيز " حتى كشف عنها بالكامل " كنت ويكس " وقام بتنظيف ممراتها وحجراتها التى بلغ عددها 108 حجرات ممتدة داهل ستة ممرات طول كل منها حوالى 48 مترا. وتمتد لأكثر من سبعين مترا داخل باطن الجبل بالقرب من مقبرة الملك توت عنخ آمون.

 وفى نهاية المدخل الرئيسى للمقبرة يوجد تمثال ضخم وفريد يظهر استكمال الكشف مفاجآت أثرية وعلمية مثيرة. وتعد هذه المقبرة أعظم اكتشاف أثرى فى وادى الملوك بعد مقبرة الملك الصغير " توت عنخ آمون " فى عام 1922: وتعد ايضا أكبر مقبرة مكتشفة فى مصر حتى الآن.
ونال الأمير " خع إم واست " رابع أبناء رمسيس الثانى وثانى أبناء الملكة " إيست نفرت " شهرة عريضة طغت على شهرة معاصرية لدهور طويلة. ولم يفتن الأمير الصغير بفنون الحرب والعسكرية كغيره من الأمراء واختط لنفسه طريقا آخر بفضل نبوغه وتفوقه العقلى، فعكف منذ نعومة أظفاره على التبحر فى فنون الكتابة والقراءة وأعمال السحر وأمور الدين والعقيدة. ودخل فى خدمة الإله بتاح رب الصناع وافنانين بمدينة منف العريقة وتدرج فى السلك الكهنوتى حتى بلغ أعلى مراتبه: كبيرا لكهنة الإله بتاح.

وأشتهر عن الأمير العالم " خع إم واست " ولعه الشديد بآثار أجداده فقام بترميمها فى سقارة مثل هرم الملك العظيم زورسر " الأسرة الثالثة " ونقش بطاقة تعريقية على هرم خوفو الأكبر قرأها على " هيرودوت " أدلاؤه أثناء زيارته لمصر، وكذلك رمم مقبرة الملك شبسكاف " الأسرة الرابعة " وهرم الملك ونيس " الأسرة الخامسة "، وترك على واجهته الجنوبية نصا تذكاريا يخلد به أعماله فى مجال ترميم آثار أجداده، وبذلك يعتبر الأمير " خع إم واست " أول عالم مصريات ومرم فى تاريخ البشرية. وعند دنو أجله اختار الأمير لنفسه دفنه فريدة، فاختار أن يدفن إلى جوار العجول المقدسة التى ظل يرعاها طيلة حياته فى السيرالبيوم- جبانة العجول المقدسة- ليدفن فى حجرة أعدها لنفسه، وبنى فوقها هيكلا زخرف بنقوش جميلة. وارتقى بذلك مرتبة عليا لا يبلغها إلا " خع إم واست " بعد أن أفنى أربعين عاما من عمره فى خدمة الأله بتاح، ورحل فى الخامسة والخمسين كالعلم على حبين مصر كأبيه رمسيس الثانى.

وبعد وفاة الأمير " خع أم واست " أصبح أخوه الأمير " مرنبتاح " هو الوريث الشرعى لعرش أبيه الملك رمسيس الثانى، والذى اعتلاه وهو فى أواخر الستين من عمره.

وفى بداية العام السابع والستين من حكم الملك رمسيس الثانى، بدات الاستعدادات للاحتفال بعيد جلوسه على العرش الذى يحل فى الشتاء القادم. كان الملك قد شارف التسعين من عمره وأخذت صحته فى التدهور وشاءت الأقدار أن تجئ نهايته فى صيف هذا العام دون الاحتفال بهذا الحدث السعيد فى حياته. وتوفى الملك بعد حكم انفرادى دام ثلاثة أرباع قرن، ورحلت روحه إلى عالم الغرب الجميلة، حيث مملكة أوزير سيد الأبدية. وانتشر خبر الوفاة فى أرجاء الإمبراطورية وعمها الحزن. وبدأ تجهيز مقبرة الملك فى وادى الملوك. وأجريت على الجثمان الملكى طقوس التحنيط التى استغرقت سبعين يوما. واتخذ الموكب الملكى طريقة فى النهر حاملا جثمان الملك من منف إلى طيبة حيث مثواه الأخير. ووصل الأسطول إلى طيبة وحمل الجثمان على محفة تجرها الثيران ويحيط به كبار رجال الدولة والعائلة الملكية فى موكب حنائزى مهيب. وفى بيت الذهب، أدخلت مومياؤه فى توابيتها الذهبية ودفنت بكل إجلال ومهابة فى مرقدها الأخير. وهكذا انضم جلالته: الملك رمسيس الثانى، ملك مصر العليا والسفلى، محبوب آمون، إلى مجمع الآلهة العظام، متحدا مع أرواح الأبرار من الفراعين.

وفى عام 1881م، اكتشفت مومياء الملك فى خبيئة الدير البحرى داخل تابوت خشبى على هيئة آدمية. وفى عام 1886م، عرضها عالم الآثار الفرنسى " جاستون ماسبيرو " فى متحف بولاق. وفى سبتمبر من عام 1975م، غادرت المومياء القاهرة فى طريقها إلى باريس حيث استقبلت ورممت ودرست لمدة ثمانية أشهر قبل عودتها إلى مصر مرة أخرى. وفى أكتوبر من عام 1995م، استقرت فى قاعة المومياوات الملكية بالمتحف المصرى بالقاهرة لتصبح قبلة للزوار من كل مكان.

ذكرى رمسيس

حفظ المصريون القدماء ذكرى هذا الملك العظيم فى قلوبهم مثلما حفظت الأرض آثاره، فرفعه رواة القصص الشعبى فى مصر القديمة إلى مصاف البطل الأسطورى والمثل الأعلى. ووصفه شعبه بأنه نجم الأرض، وسيد البنائين، والملك المحبوب، واعتبره حفدته المثل والقدوة. وحرص خلفاؤه من الملوك على التشبه به والتسمى باسمه حتى بلغ عددهم أحد عشر ملكا. واعتبره سميه الملك رمسيس الثالث بطله المقدس، فاتخذ لنفسه جميع ألقابه بل زاد على ذلك أن سمى ابناءه بأسماء أبناء رمسيس الثانى، وشيد حيا جديدا فى العاصمة الملكية بر رمسيس " بيت رمسيس " بالدلتا، وبنى معبده فى مدينة هابو على غرار معبد الرامسيوم، بل وأضاف إلى هذا المعبد هيكلا خاصا لعبادة رمسيس الثانى. وتضرع رمسيس الرابع للآلهة آملا فى أن تمد فى ملكة سبعة وستين عاما مثل رمسيس الثانى. وتلقب الملك " بسوسنس " أحد ملوك الأسرة الواحدة والعشرين بلقب " رمسيس بوسنس ". وعلى الرغم من ذلك فلم يرق أحدهم إلى مستوى مثلهم الأعلى فى شخصيته أو كفاءته أو فى بعد نظره، هذا وقد قدس الملك رمسيس الثانى فى بلاده النوبة. واستمرت عبادته تؤدى فى معبدية بأبيدوس ومنف.

وليس هناك أصدق مما قاله عالم المصريات الأنجليزى " كتشن " يصف به هذه الفترة من تاريخ مصر بقوله: " كانت مصر فى عصر رمسيس الثانى جزءا من مشهد التاريخ البشرى الطويل، وكان عصره فريدا له طابعه الخاص، شهد من الأحداث فى الداخل والخارج الشئ الكثير، وخلف من الاثار ما يشهد له بنهضة إنشائية عظيمة مما يجعلنا نطلق عليه بجدارة " العصر الرعامسى ".

ويقول الشعر الإنجليزى " ب. ب شيللى " فى قصيدته " أوزيماندياس " قاصدا رمسيس الثانى: " اسمى: أوزيماندياس، ملك الملوك: أنظر لأعمالى، أيها الجبار اليائس لم يبق شئ بجوارى. فمن فتات هذا الحطام الضخم العارى- بلا حدود تمتد الرمال وحيدة سائحة على مد البصر ".

وتصف الرحالة " أمياليا إدواردز " شعورها أمام رمسيس الثانى بقولها: " أمام رمسيس الثانى يحس المرء أنه أمام شخصية محببة تبعث على الاحترام. وتثير فينا شعورا بأننا نعرفه، ونحس بحضوره ونسمع اسمه يتردد فى رحابه الفضاء ".
ومازالت الأرض المصرية تحتفظ باسرارها، ومازالت مليئة بآثار هذا الملك وتخرج لنا كل يوم الجديد والجديد، فاكتشف أخيرا عالم الآثار الأشهر الدكتور " زاهى حواس " بهضبة الجيزة وبالتحديد إلى الجنوب من هرم الملك منكاورع " الأسرة الرابعة " تمثالا مزدوجا للملك رمسيس الثانى يمثله فى هيئة إله الشمس " رع حور آختى ". مما يؤكد مدى انتشار آثار هذا الملك فى أرض مصر، ويبين كم كانت حياته محاطة بالأسرار ولا تزال.

ــــــــــــــــــــــــ
من فضاء المعرفة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق